د.مدحت عبد الجواد يكتب .صرخه فى وجه الإنسانية

 غزة… صرخة في وجه الإنسانية الصمّاء



هناك، حيث لا ظلّ إلا لأعمدة الدخان، ولا صوت إلا للرصاص والغارات، تنام غزة على جراحها وتصحو على لهيب القنابل، مدينة تحترق وأهلها يمشون على الرماد حفاة، يتوسدون الأنقاض، ويشدّون على بطونهم حجارة الصبر. الدم في شوارعها ليس طارئًا، بل هو اللون المعتاد، ورائحة الموت في أزقتها ليست غريبة، بل هي الهواء الذي يتنفسه الصغار قبل الكبار.

أي قلوب هذه التي لم ترتجف، وأي أعين لم تدمع، وأي ضمائر ما زالت ساكنة أمام هذا الطوفان من الألم؟! يُقتل الناس في بيوتهم، ويُدفن الأطفال أحياء تحت الركام، ويُهجّر الأبرياء من أرضهم، وكأن ما يجري فيلم أسود طويل لا نهاية له، ومع ذلك يبقى العالم في سباته، صامتًا صمتًا يشبه الجريمة، ويغضّ الطرف كأن غزة لا تُعدّ من البشر.

لكن غزة- رغم كل شيء- لا تنكسر، مدينة من صخر، لا من طين، وأهلها من نار لا تنطفئ، يصبرون صبر الجبال، ويقاتلون بأسنانهم إن عزّ السلاح، ويرفعون رؤوسهم في وجه الموت، كأنهم يقولون له: "تعال، إنك إن أتيتنا فسنلقاك واقفين"، نحن لا نعجب من صمودهم، بل نعجب ممن لم تهتزّ لهم شعرة وهم يرون هذا الصمود الجليل ويظلون في مقاعد المتفرجين.

أيها الصامتون، يا من خذلتموهم بقلوبكم وأقلامكم وسكوتكم، أما علمتم أن الخذلان جريمة؟ وأن التخلّي عن غزة ليس مجرد موقف، بل سقوط أخلاقي، وانهيار في ميزان الشرف والرجولة؟ إن من يخذل غزة اليوم، فقد خذل الله، وخذله الله، وسيُخذل في ساعة لا ينفعه فيها ندم ولا تبرير ولا سياسة المصالح الضيقة.

غزة لا تحتاج إلى شفقة بل إلى وقفة، لا تطلب دموعًا على الشاشات بل مواقف تصنع الفارق، وإن كنا نريد أن نكون في صفها، فعلينا أن نطهّر بيوتنا قبل أن نذهب إلى ساحة المعركة، بأن نُسكت المتآمرين في الداخل قبل أن نواجه المعتدين من الخارج، فلم يعد الصراع فقط مع العدو الظاهر بل مع عدو خفيّ يلبس جلودنا، يتكلم بألسنتنا، ويرفع رايات زائفة ليفتّ في عضد الأمة، ويسرق وجهتها.

إن الشعوب لا تنام طويلًا، وإن غفلت فإنها تغضب، وإن غضبت فهي نار، لا تبقي ولا تذر، فاحذروا شعوبًا أنهكتها الخيانات وتكدّست في قلوبها المرارات، فإنها إن انتفضت فإنها لا تعرف سقفًا لغضبها، ولا تفرّق بين خائن وصامت، والتاريخ لا يرحم، والجماهير حين تستفيق تقتلع الجذور التي خانت، وتغسل عار الصمت بسيل من لهيب البركان المشتعل في قلوبها.

فعلينا أن نكون مع أهل غزة، لا بالهتاف فحسب بل بالفعل، وأن ندعمهم بالمال، وبالكلمة، وبالمقاطعة، وبالدعاء، وبتربية أجيال تعرف أن فلسطين ليست نشيدًا في كتاب مدرسي بل نبض أمة وقضية حياة، وأن نكشف الزيف، ونفضح المنافقين، ونحاصر كل صوت يحاول أن يساوي بين الضحية والجلاد، وأن نعيد توجيه البوصلة إلى حيث يجب أن تكون.

غزة ليست وحدها بل نحن الذين ابتعدنا، وغزة لم تسقط، بل نحن الذين تدحرجنا على منحدر الخنوع، فهيا، عودوا إلى غزة، عودوا إلى ضمائركم، قبل أن يأتي يوم تُسألون فيه: "أين كنتم عندما كانت غزة تصرخ؟!"

تعليقات