الفصل الأخير هدى حجاجى

 الفصل الأخير __قصة قصيرة 


• هدى حجاجي أحمد



خمس سنوات سفر ماذا حوت في طيّاتها؟!

 فتحت أذنيّ عن آخرهما وهو يرتب فصول المأساة بذاكرتي، مبتدئا بزوجة ماجنة رفعت دعوى للطلاق وقُضي لها بالحكم غيابيّا، وطفلة خرجت تصرخ للحياة، وتدريجيّا تضخّم رأسها الصغير بأسطورة الأب الميّت. ثمّ دار خربة في ركن متّسخ، بأعلاها نسج العنكبوت له بيوتا متفرّقة... تشابكت الخيوط السوداء، وماذا عن الفصل الأخير؟! قلت مغمغما: وماذا بعدُ؟ تمتم: القِمارُ… هو المنحدر الأخير. 

رحت أتابع قوس الشّمس الهابط في استسلام نحو قاع الأفق في دائرة مخضّبة بحمرة قانية…

القانون الكونيّ لا يعرف الاستثناءات. قَدِم النّادل بخطى حثيثة: الحساب يا سادة. 

نطق الرّجل بصوت واهن: لم أعد أمتلك جنيها... تبعثر الحلم بين الورق وحوافّ الزهر العنيد. 

سرنا متّجهَينِ إلى الناحية اليسرى للممرّ الطويل أشرت إلى منعطف جانبي. قلت بينما أجاهد  هذا الإحساس الزاحف بإصرار إلى سطح رأسي: هذه سيارتي، أعمل عليها السّاعات المتبقّية في جعبة اليوم بعد انقضاء مواعيد العمل، توقفنا عند أول النّاصية، رمقته بنظرة سريعة واستطردت: لستُ ثريا، أحسبني موسرا بزوجة فاضلة ودار متينٍ أساسُها، عامرةٍ بالحبّ، يركض في جنباتها ولدان شبّا عن الطّوق.

 انطلقت في عينيه أفتش عن نظرة محدّدة، هزّ رأسه.

-  اركبْ أوصلْك للبيت، لدي متّسع من الوقت، قلتها دون رغبة حقيقية في الفعل.

- خيرا تفعل، يا صاحبي.…. 

- الآن صاحبك يا حاتم. ألا ترغب أن نمضي معا؟ عاد إلى صمته. واصلت من جانبي الحديث متحفّظا: تحتاج الآن لمراجعة بعض الحسابات القديمة.  لم يعلّق، فقط اتّجه بناظريه بعيدا كأنّما يرصد شيئا مجهولا، واكتشفت في مؤخّرة الرأس منه بعض شعيرات بيض لا أعرف في أيّ وقت بالتحديد تسلّلت إليها،  فشلت في حصرها، فأطرقت خاضعا لصمت ثقيل. مرّت لحظات خاوية تخلّلها مواء خافت، التفتُّ لأرى قطّين فوق الرّصيف في المواجهة، كوّر القط الأول جسده وقفز بطاقة هائلة فوق سور عال، كان في وضع أفضل لكنّه انحدر إلى موضع قصي، حين توارى انسحب الآخر مكتفيا بهذه النتيجة. انسحبت عيوننا عن المشهد وتلاقت على غير توقّع، شملني بنظرة متأنّية، لم يكن ثمّة ما يقال، فكّرت أنّه ينبغي الآن أن أمضي، فعاجلني قائلا وهو يضغط بقوّة على يدي الممدودة:  أعرف أنّه كان لديك انطباع خاصّ تُجاهي فيما يتعلّق بالفارق الماديّ بيننا، وإن لم يبدُ مُعلَنا صراحة في طبيعة العلاقة المتبادلة.. لكنّنا بأيّة حال توحّدنا تحت مظلّة صداقة كانت ترقى لدرجة التّآخي.. 

 تضرب على وتر حساس، تعزف لحنا أجوفا متوقّعا أصمّ أذنيّ عن هذا الطّنين.

 في حركة لا إرادية سحبت يدي وشيء ما قد تأجّج داخلي، لكنها ليست فرصة بالمعنى الحقيقي للتشفّي من بقايا رجل. 

هل كنت راثيا له أم أخذني الشعور بالانتصار حيال رجل يتهاوى أمامي؟ على أنّي رغبت – على نحو قاطع-  عن مواصلة النّبش في أتربة من النسيان لاستخلاص الألم الكامن تحتها، لذا قلت اللبلاب نبات متسلّق ينمو حسبما يوجّه.. ازرع من جديد. غامت عيناه، أدار ظهره وابتعد.

تعليقات